الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة قراءة في المجموعة الشعرية "نحب نغني " للشاعر علي بن فضيلة... بقلم عبد الرزاق بن علي

نشر في  22 جانفي 2021  (11:55)

بقلم عبد الرزاق بن علي

"نحب نغني" أو هو ربما "نحب نعيش"، هو ربما أيضا "أريد أن اتحرر من كل القيود و الموروث" أو هو ربما تعبير عن رفض الراهن والتوق إلى آخر منشود يعانق سماء الابداع.  

"نحب نغني" هي مجموعة شعرية باللغة العامية أو الدارجة التونسية، هو ما يصطلح عليه عند الكثيرين "بشعر اللهجة" أو "الشعر المحكي"، نسجت حروف قصائدها أنامل المبدع علي بن فضيلة، تولت نشرها اثر ذلك  دار وشمة في حلة جميلة وإخراج يليق بجمال الكلمات. هي مولوده البكر، ولن تخف عنكم أوجاع الولادة الأولى وارهاصاتها... لماذا؟ وكيف؟ وهل يمكن؟

راهن كاتب المجموعة الشعرية على نجاح مكتوبه غير آبه بالأصوات التي ما فتئت ترتفع معارضة هذه الرؤية الشعرية واعتبارها انحدارا في اللغة والأسلوب. أولئك الذين ينتصبون حراسا أشاوس أو أوصياء فوق النقد عن اللغة العربية الفصحى معتبرين كل ما سنحت لهم الفرصة أن شعر اللهجة أو العامية لا يعدو أن يكون سوى هرطقات لا ترتقي بأي حال من الأحوال  إلى دائرة النظم. كل هذا وذاك لم يثن علي بن فضيلة من ركوب قطار الاختلاف والتميز وتأسيس أسلوب متفرد ولغة اتقنها أيما إتقان.

لذا في اعتقادي حان الأوان للكف عن تأليه اللغة واصباغها ثوب القداسة. هي في رأيي مجموعة علامات  "des signes " وان اختلفت شكلا ذلك لا يعني افتقارها للمعنى او للصورة.

ألم يتجاوز شعراء ما بعد الجاهلية اللغة الحوشية لفطاحل الشعر الجاهلي فاستعملوا لغة سلسة مفهومة كمسايرة للنسق التاريخي وتطور العقل البشري. فمثّل أثر ذلك القرن الأول والثاني مثلا ثورة على مستوى الشكل والمضمون والمعجم (دون التوسع أكثر في التفاصيل فلا أعتقد أن هو ذا إطاره). لذا حسب رأيي، لا وصي على الإبداع سوى الإبداع ولا وصي على الحرف سوى المعنى والصورة.

وبالعودة الي المجموعة الشعرية "نحب نغني"، نجد أنّ الشاعر كان مع كل ذلك وفيا للأغراض الشعرية القديمة، فكتب للحب وللمرأة كما كتب للأم والوطن. إلا أنه وبنظرة في العمق نجد أنه انتهج منهجا طريفا وتوظيفا فريدا لبعض المقومات في النظم لم ينقصها الإيقاع ولا الصور. فحضور الليل والقمر بغزارة في قصائده لم يكن للمناجاة بقدر ما هو سعي الي خلق التماهي بينهما وبين الموصوفات. وهنا لنا أن نستدعى قصيدة :

 عيد يا عيد

" ليلك متلبد

ولونك فيه برشة تجاعيد..."

كان حضور الليل محاكاة لظلمة الفقد والاغتراب في غياب إمرة هي كل النساء بالنسبة للشاعر. هنا انعكست ظلمة الليل و وحشته على تجاعيد امرأة أضحى حضورها لا يتعدى الذاكرة...

ولم تكن مناداته لليل في قصيد "نوار الليل" مناداة كلاسيكية فيها يشتكي لليل حاله، كما لم تكن مناجاة الرومنطيقيين وشعراء الحب بما هو وجع يزيد من وطأة ما هم عليه من عذابات. بل توجه بالخطاب "لنوار" الليل فأكسبه صفة لم يألفها. فالأزهار كما هو معلوم تستكين ليلا. فما كان إلا أن نفخ فيها الروح و جعلها تعيش خارج الإطار المعهود. وكأنّ النجوم التي في السماء أضحت ورودا عكست اوجاعها ورود الأرض.

"والورد دمو يسيل...

  مجروح منها الكلمة. "

ستجد نفسك وانت تقرأ المجموعة الشعرية محاطا بمزيج غريب ومتفرد من المشاعر والأحاسيس. ستعتريك حالة من الانتشاء والارتخاء وانت تتابع  تلك الصور التي تتشكل أمامك وانت تقرأ القصائد. فيأخذك المشهد الي سفرة تخيلية تتماهى في تفاعلها وحركاتها مع الواقع، وهنا ينتزع القارئ من الشاعر أو يتقاسم معه تلك اللحظات فتكون بذلك الشخوص مألوفة بحزنها وفرحها، بثورتها وتمردها .فيتمثل القارئ الحكايات والتجارب ويتبناها.

ستعيش من جديد، مثلا، تجربة حب كنت قد مررت بها زمن المراهقة، أيام المعهد أو الجامعة حين تتراقص أمامك الصور واللحظات الذي شكلها الشاعر في لحظة تماه بين التجربة الشخصية والتجربة الجماعية. فكانت البداية بقصائد: "نحبك" و "جرب مرة غير عنقني"... ستضحك وتغمرك العبرات على زمن جميل أفل نجمه دون أن يمحى أثره فيك...

انّ ديوان "نحب نغني" هو مجموعة نصوص اجتمعت حول مفهوم "الحب" كقيمة سامية أرادها الشاعر أن تكون لحن الحياة وايقاعها اليومي، وهو ما ترجمه الجمع بين "حبه والغناء" منذ عتبة العنوان فقال صراحة: "نحب نغني" فغنت له الحروف والكلمات.

فالديوان كان لحظة جنون منشود يرفض من خلالها كل الثوابت والموروثات. ولئن كانت المواضيع المتناولة كلاسيكية إلا أنه أكسبتها تفردا من خلال انسيابية اللغة والمفردات. لغة اكتسبت كل  مقومات "الشعر الغنائي" فيكون من السهل لمن أكتسب قريحة الغناء أن يؤديها.

من غير المجانين الذين يستطيعون ذلك؟ هم وحدهم من يسيرون في مناهج لم يحددها غيرهم ولا يخضعون للقواعد والثوابت بل هم وجدوا لتجاوزها والسير عكس عقاربها.